النسبية في القرآن
لطالما إتهم أعداء الإسلام القرآن بإحتوائه على أخطاء علمية تظهر بشريته و منطق معتقداته المعاصرة حيث حاولوا نسب بعض الأفكار المغلوطة لآياته كمركزية الأرض و دوران الشمس و بقية الأجرام حولها بل هناك من ذهب إلى أن الشمس تغرب في عين حمئة فوق سطح الأرض و أن هذه الأخيرة ليست كروية بل مسطحة ألخ من الإتهامات و الشبهات
و للأسف نجد بعض المسلمين ممن يؤمنون بنظرية المؤامرة العالمية و يسعون لمحاربة العلم يتبنون نفس هذه الأفكار و التفسيرات السطحية مدعين أن لا علم سوى في القرآن و يتجاهلون أمر القرآن نفسه بالسعي وراء العلم خارج نصوصه
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) سورة العنكبوت
و جاعلين بالتالي تفاسيرهم حجة على القرآن و على دين الله
لكن هذه الآيات على عكس ما يعتقده البعض تثبت ألوهية القرآن و ليس خطأه و إستعماله لمفهوم النسبية قرون طويلة قبل أن يلجأ إليها علماء العلم الحديث
فمفهوم النسبية يقوم على مبدأ أن ثبات أو حركة أي جسم في هذا الكون متعلق بالجسم الذي نقارن من خلاله فمثلا بالنسبة لمن يركب في سيارة تجري بسرعة معينة فكل ما يتواجد في السيارة أو يجري بنفس سرعتها فهو ثابت و كل جسم خارجها و يجري بسرعة مختلفة يعتبر متحركا نفس الشيء بالنسبة لمن يعيش في كوكب الارض و يخضع لجاذبيته و قوانينه و بالتالي يجري بنفس سرعته فبالنسبة إليه الأرض ثابتة و بقية أجرام الكون متحركة و من بينها كوكب الشمس في المقابل لو كان جسم المقارنة هو الشمس أو القمر أو أي كوكب آخر فسيصبح هذا الأخير هو الجسم الثابت و كل الأجسام الأخرى متحركة بما فيها كوكب الأرض الذي نعيش فوقه حاليا
فهذه الآيات التي يعتقد البعض أنها أخطاء علمية هي في الحقيقية تصف لنا الأشياء بمفهوم نسبي من وجهة نظر من يعيش فوق الأرض
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) سورة البقرة
فعندما ذكر إبراهيم إتيان الله بالشمس من المشرق فالمقصود أن الله يضع الأسباب لتأتي الشمس من المشرق بالنسبة لمن يعيش فوق الأرض و ذلك عن طريق دوران الأرض حول محورها و لو أراد الله تحقيق ما طلب به إبراهيم بإتيانها من المغرب فإنه سيقوم بعكس دورنها حول محورها و لم يكن المقصود أبدا في الآية أن الشمس تدور حول الأرض
نفس الشيء بالنسبة لأصحاب الكهف فالشمس تتحرك بالنسبة لمن هو متواجد في الكهف و ليس من منظور من يعيش خارج كوكب الأرض
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) سورة الكهف
و بغض النظر هل قصة ذو القرنين جرت في عالمنا أو في عالم آخر و أن الشمس المذكورة فيها هي كوكب الشمس فحتى لو فرضنا أن هذا الأخير هو المقصود فالشمس تغرب في عين حمئة بالنسبة للمكان و الزمان الذي كان يتواجد فيه ذو القرنين لحظتها
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) سورة الكهف
فالناظر بالفعل عند رؤية مشهد كهذا قد يعتقد أنها تغرب في عين حمئة
لكن بالنسبة لاي شخص أخر متواجد في زمان و مكان مختلف حتى لو كان فوق كوكبنا فلن يرى الشمس تغرب في عين حمئة لأن جسم المقارنة هنا الذي سمح برؤية هذا المشهد هو الأرض في المقام الأول ثم العين الحمئة التي تزامن قدوم ذو القرنين إليها لحظة غروب الشمس و في حقيقة الأمر هذه الآية تحاول الإشارة إلى مكان معين أكثر من إشارتها لظاهرة طبيعية
سيعتبر البعض هذه الأقوال مجرد تفسيرات و إجتهادات لا دليل عليها و لا تمثل وجهة نظر القرآن الحقيقية و قد يكون المقصود في الآيات بالفعل ما ذهب إليه المشككون لذلك وجب إعطاء أدلة أكثر وضوح و إقناع
و سأحاول الإنطلاق من تفاسير و مفاهيم المشككين التي تدعي أن القرآن يخبر بوجود أرض واحدة هي التي نعيش فوقها و كل ما يوجد خارجها يعتبر سماء و بالتالي فإن الجنة توجد في السماء مصداقا للآية
وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) سورة الذاريات
و كذلك الآية التي تؤكد أن الأرض ستبدل يوم القيامة بغيرها
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) سورة إبراهيم
بل ستدك دكا
كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) سورة الفجر
لكننا سنفاجئ بتعارض و تناقض في تفسير هؤلاء عندما تؤكد آية أخرى أننا سنبعث في الأرض التي ستشرق بنور ربها
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) سورة الزمر
و إنطلاقا من هذه الآية يعتقد العديد أننا سنبعث فوق نفس هذه الأرض ؟ لكن الحقيقة أن هذه الأرض أو بالأحرى هذا الكوكب سيدك دكا و يبدل بغيره لأن وصف كوكبنا بالأرض وصف نسبي ينطبق فقط على من يعيش فوقه و الذي يعتبر كل زمان و مكان لا ينتمي لكوكب الأرض سماء
لذلك نجد الآيات عندما تخاطب من يعيش حاليا في كوكبنا و يخضع لزمانه و مكانه فإنها تصف زمان و مكان الدار الآخرة المستقبلي بالسماء و ليس بالأرض
وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) سورة الذاريات
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) سورة إبراهيم
لكن عندما سنصبح خاضعين لزمان و مكان الدار الآخرة فتصبح هذه الأخيرة حينها هي الأرض بالنسبة لنا
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) سورة الزمر
و لاحظوا جيدا أن صيغة الخطاب تغيرت في الآية الأخيرة إلى صيغة الحاضر مما يؤكد أنها تتحدث بصيغة زمان و مكان الآخرة عكس الآيات السالفة التي تتحدث من منظور زمان و مكان الدنيا
فلو كان القرآن بشري و كاتبه شخص يعتقد بوجود أرض واحدة لإكتفى بقول و أشرقت الجنة بنور ربها و ليس الأرض لكن هذا دليل واضح على إدراك منزل القرآن التام بتغير مفهوم الأرض حسب الزمان و المكان
و هذه الأرض الجديدة في الآخرة ستشرق بنور ربها و ليس بنور الشمس
مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) سورة الإنسان
و ستخضع لزمان و مكان مختلف لا يعتمد على نفس وحدات قياس الأرض الحالية المتعلقة بالشمس و القمر و بالتالي سيكون فيها الزمان مختلف عن زمان الأرض
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) سورة الحج
و هنا أود أعطي مثال مشابه فكما أسلفت الذكر فالبنسبة لكل من يعيش فوق كوكبنا الحالي فهذا الأخير هو الأرض و كل ما يوجد خارجه يعتبر سماء بما في ذلك القمر
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) سورة نوح
في المقابل عندما نزل الإنسان فوق سطح القمر فقد أصبح هذا الأخير بالنسبة إليه لحظتها هو الأرض و أصبح كوكبنا جزء من السماء أي سماء القمر
و هذه الحقيقية تتجلى بوضوح عندما ذكر القرآن وجود دواب في السماوات
فالدواب هي المخلوقات التي تدب فوق الأرض أي تمشي على سطحها
وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82) سورة النمل
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) سورة النور
و قد فصل القرآن بينها و بين الطيور التي تتنقل عن طريق الطيران بوضوح في الآية
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) سورة الأنعام
و عندما ذكر وجود دواب في السماوات كما جاء في الآية
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) سورة الشورى
فهي في حقيقة الأمر دواب تدب و تعيش في كواكب أخرى تعتبر سماوات بالنسبة لمن يعيش في كوكب الأرض
و لعل أبرز آية تشير للنسبية في كتاب الله هي آية حركة الجبال
وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) سورة النمل
فبالنسبة لمن يعيش فوق سطح الأرض فإنه يحسب الجبال جامدة و ثابتة لكن من يراها من جسم مختلف السرعة خارجها سيلاحظ أن الجبال تتحرك مثل السحاب و هذا الوصف شبيه بمن يشاهد الأرض من قمر إصطناعي
نفس الشيء بالنسبة لشكل الأرض فمن يراها من خارج الغلاف الجوي فستبدو له كروية لكن من يشاهدها من سطح الكوكب ستبدو له ممددة و مبسوطة
وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) سورة ق
أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) سورة الغاشية
فهذه الآيات ليست بأخطاء علمية بل تحدي للكفار عبر العصور أن ينظروا للأرض كيف مدت و سطحت بالنسبة لمن يعيش فوقها رغم كونها كروية الشكل
فلا وجود لأخطاء علمية في القرآن بل سوء فهم للآيات و آيات أخرى لم يأتي علمها بعد و عندما سيأتي وقت بيانها سيظهر إعجازها كما ظهر في سابقتها و بالفعل صدق وعد ربنا تعالى حين أخبرنا في كتابه
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) سورة فصلت
التالي
« التدوينة السابقة
« التدوينة السابقة
السابق
التدوينة التالية »
التدوينة التالية »